فصل: فَصْلٌ: حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُكَاتَبِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُكَاتَبِ، وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ نَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ: صِفَةُ الْمُكَاتَبَةِ:

وَأَمَّا صِفَةُ الْمُكَاتَبَةِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى إذَا كَانَ صَحِيحًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ فَسْخَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ، إذَا لَمْ يَحِلَّ نَجْمٌ أَوْ نَجْمَانِ عَلَى الْخِلَافِ غَيْرُ لَازِمٍ فِي جَانِبِ الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِعَ نَظَرًا لِلْعَبِيدِ، وَتَمَامُ نَظَرِهِمْ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِي حَقِّهِمْ، وَيَجُوزُ رَدُّ الْمُكَاتَبِ إلَى الرِّقِّ وَفَسْخُ الْكِتَابَةِ دُونَ قَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: بَلَغْنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ، وَمَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْعَقْدِ إذَا فَسَخَ الْعَقْدَ يَصِحُّ فَسْخُهُ دُونَ الْقَاضِي كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَغَيْرِهِ، فَأَمَّا الْفَاسِدُ مِنْهُ فَغَيْرُ لَازِمٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَر؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ وَاجِبُ النَّقْضِ، وَالْفَسْخُ حَقٌّ لِلشَّرْعِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي أَنَّهَا مُتَجَزِّئَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ مُتَجَزِّئُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذَا الْمُكَاتَبَةُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَاتَبَ رَجُلٌ نِصْفَ عَبْدِهِ أَنَّهُ جَازَتْ الْكِتَابَةُ فِي النِّصْفِ، وَصَارَ نِصْفُهُ مُكَاتَبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُتَجَزِّئَةٌ عِنْدَهُ فَصَحَّتْ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ لَا غَيْرُ، وَصَارَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ إلَّا بِالْإِذْنِ، وَالْإِذْنُ لَا يَتَجَزَّأُ فَصَارَ الْإِذْنُ فِي قَدْرِ الْكِتَابَةِ إذْنًا فِي الْكُلِّ فَصَارَ مَأْذُونًا فِي الْكُلِّ، وَنِصْفُهُ مُكَاتَبٌ.
فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ نِصْفُهُ وَصَارَ النِّصْفُ الْآخَرُ مُسْتَسْعًى فَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَإِنْ اكْتَسَبَ الْعَبْدُ مَالًا قَبْلَ الْأَدَاءِ فَنِصْفُهُ لَهُ وَنِصْفُهُ لِلْمَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مُكَاتَبٌ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ فِي قَوْلِهِمَا، وَالْكَسْبُ كُلُّهُ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ كُلُّهُ صَارَ مُكَاتَبًا وَمَا اكْتَسَبَ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَكُلُّهُ لِلْمُكَاتَبِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى فِيهِ شَيْءٌ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ وَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ لَهُ، وَإِذَا كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَاتَبَ نِصْفَهُ فَقَدْ أَذِنَ لَهُ بِالِاكْتِسَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَّا بِالْكَسْبِ فَلَا يَمْلِكُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ فَسْخِ الْكِتَابَةِ، وَلَا يَفْسَخُ إلَّا بِرِضَاهُ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ إنَّهُ يَمْلِكُ حَجْرَهُ وَمَنْعَهُ مِنْ الِاكْتِسَابِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مَأْذُونًا بِالْقَوْلِ فَيَصِيرُ مَحْجُوزًا عَلَيْهِ بِحَجْرِهِ، وَالْإِذْنُ هاهنا لَا يَثْبُتُ بِالْقَبُولِ بَلْ مُقْتَضَى الْكِتَابَةِ فَلَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ إلَّا بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ فَلَهُ مَنْعُهُ بِالْقِيَاسِ وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ يَوْمًا أَوْ يَسْتَسْعِيَهُ يَوْمًا وَيُخَلِّيَ عَنْهُ يَوْمًا لِلْكَسْبِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَوْ يَعْجِزَ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ نِصْفَهُ رَقِيقٌ لَمْ تَزُلْ يَدُهُ عَنْهُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْمِصْرِ لِأَجْلِ النِّصْفِ فَيَقُولُ لَهُ إنْ كَانَ نِصْفُك مُكَاتَبًا فَالنِّصْفُ الْآخَرُ غَيْرُ مُكَاتَبٍ فَلِيَ الْمَنْعُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَسْتَخْدِمَهُ يَوْمًا كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَ مَأْذُونًا بِالِاكْتِسَابِ وَذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْأَمْصَارِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُهُ وَأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاكْتِسَابِ بِالِاسْتِخْدَامِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالنِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ أَوْ يَسْتَخْدِمَ النِّصْفَ دُونَ النِّصْفِ.
فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ النِّصْفَ الَّذِي هُوَ مُكَاتَبٌ تَبَعًا لِلنِّصْفِ الَّذِي لَيْسَ بِمُكَاتَبٍ، أَوْ يَجْعَلَ النِّصْفَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُكَاتَبٍ تَبَعًا لِلنِّصْفِ الَّذِي هُوَ مُكَاتَبٌ، وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالرِّقَّ إذَا اجْتَمَعَا غَلَبَتْ الْحُرِّيَّةُ الرِّقَّ، وَفِي الْكِتَابَةِ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلْعِتْقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهِ.
وَإِذَا كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الْبَاقِيَ فَإِنْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ أَوْ دَبَّرَ نِصْفَهُ ثُمَّ بَاعَهُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ وَيَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُسَلَّمَ إلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ فَعَلَ هَكَذَا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا كَذَلِكَ هَذَا.
وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ نَفْسِهِ مِنْ الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُوَ إعْتَاقٌ بِمَالٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ مِنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ مِنْ الْمُدَبِّرِ يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ بَيْعًا لَمَا جَازَ، وَإِذَا أَعْتَقَ نِصْفَهُ فَالْعَبْدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَدَّى الْكِتَابَةَ وَعَتَقَ وَإِنْ شَاءَ عَجَزَ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوَجَّهُ إلَيْهَا وَجْهَا عِتْقٍ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ عِتْقٌ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ، وَعِتْقٌ بِالسِّعَايَةِ، فَلَهُ أَنْ يَمِيلَ إلَى أَيْ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ.
عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَاتَبَ نِصْفَهُ أَوْ كُلَّهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِذَا أَذِنَ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ أَذِنَ لَهُ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، فَإِنْ كَاتَبَ نِصْفَهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ صَارَ نَصِيبُهُ مُكَاتَبًا لَكِنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَنْقُضَ الْكِتَابَةَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ فِي الْحَالِ وَفِي ثَانِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مُكَاتَبٌ وَفِي الثَّانِي يَصِيرُ مُسْتَسْعًى فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ.
وَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلَا يَصِحُّ فَسْخُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ الَّذِي كَاتَبَ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفَسِهِ فَلَا يَفْسَخُ تَصَرُّفَهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِرِضَا الْعَبْدِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الشَّرِيكُ حَتَّى أَدَّى عَتَقَ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ نَفَذَتْ فِي نَصِيبِهِ فَإِذَا وَجَدَ شَرْطَ الْعِتْقِ عَتَقَ، ثُمَّ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الشَّرِيكِ فَيَقْبِضُ مِنْهُ نِصْفَ مَا أَخَذَ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ كَانَ كَسْبَ عَبْدٍ بَيْنَهُمَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَأْخُوذِ، ثُمَّ الَّذِي كَاتَبَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا قَبَضَ شَرِيكُهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى بَدَلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا نِصْفَهُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْبَدَلِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْكَسْبِ فِي يَدِ الْعَبْدِ لَهُ نِصْفُهُ بِالْكِتَابَةِ وَنِصْفُهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ، هَذَا فِي الْكَسْبِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ.
وَأَمَّا مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ يَصِيرُ مُسْتَسْعًى وَالْمُسْتَسْعَى أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ مِنْ السَّيِّدِ.
فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى، فَقَالَ الْعَبْدُ: هَذَا كَسْبٌ اكْتَسَبْته بَعْدَ الْأَدَاءِ وَقَالَ الْمَوْلَى: بَلْ اكْتَسَبْته قَبْلَ الْأَدَاءِ.
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْكَسْبَ شَيْءٌ حَادِثٌ فَيُحَالُ حُدُوثُهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَصَارَ الْحُكْمُ بَعْدُ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَلِلشَّرِيكِ ثَلَاثَةُ اخْتِيَارَاتٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَخِيَارَانِ.
هَذَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَإِذَا كَانَ بِإِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا فِي فَصْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا إنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ هاهنا لِوُجُودِ الرِّضَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا عَتَقَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَتَاقِ حَيْثُ أَذِنَ لَهُ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ اثْنَانِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا، وَالثَّالِثُ أَنَّ مَا قَبَضَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ هَذَا إذَا كَاتَبَ النِّصْفَ، فَأَمَّا إذَا كَاتَبَ الْكُلَّ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ الشَّرِيكُ مِنْهُ نِصْفَ مَا قَبَضَ مِنْ الْكِتَابَةِ لَا يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُكَاتَبِ هَذَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَأَجَازَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ صَارَ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا فَلَا يَعْتِقُ جَمِيعُهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِمَا مَعًا عَتَقَ، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا أَوَّلًا لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ هَذَا إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ كُلُّهُ، وَإِنْ أَدَّى جَمِيعَهُ إلَى الَّذِي كَاتَبَ عَتَقَ كُلُّهُ، وَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الشَّرِيكِ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَصِلَ نِصْفُهُ إلَى شَرِيكِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِنَّ كِتَابَةَ النِّصْفِ وَكِتَابَةَ الْجَمِيعِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَهُمَا لَا تَتَجَزَّأُ فَإِنْ لَمْ يُجِزْ صَاحِبُهُ حَتَّى أَدَّى عَتَقَ كُلُّهُ، وَيَأْخُذُ الشَّرِيكُ مِنْهُ نِصْفَ مَا قَبَضَ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا قَبَضَ مِنْهُ شَرِيكُهُ وَنِصْفُ الْكَسْبِ الْفَاضِلِ لِلْمُكَاتَبِ، وَنِصْفُهُ لِلَّذِي لَمْ يُكَاتَبْ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلَّذِي كَاتَبَهُ وَيَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَإِنْ أَجَازَ شَرِيكُهُ صَارَ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا مَعًا عَتَقَ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَجَمِيعُ الْكَسْبِ لِلْمُكَاتَبِ، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَصِلَ نِصْفُهُ إلَى الْآخَرِ إلَّا إذَا أَذِنَ لِشَرِيكِهِ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الْمَأْمُورِ عَتَقَ، وَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الْآمِرِ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَصِلَ نِصْفُهُ إلَى الْمَأْمُورِ.
وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى الِانْفِرَادِ، بِأَنْ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ كَاتَبَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، صَارَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا لَهُ فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِمَا مَعًا عَتَقَ، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَلَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَاتَبَ صَارَ رَاضِيًا بِكِتَابَتِهِ وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَقْضِيَ غَرِيمًا دُونَ غَرِيمٍ، وَنَصِيبُ الْآخَرِ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ فَإِذَا أَدَّى نَصِيبَ الْآخَرِ عَتَقَ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ نَصِيبَ الْآخَرِ وَلَكِنَّهُ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَالْجَوَابُ فِيهِ مَعْرُوفٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ جَمِيعَ الْعَبْدِ صَارَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا لَهُ بِالْبَدَلِ الَّذِي سَمَّى، فَمَا لَمْ يُوجَدْ جَمِيعُ الْمُسَمَّى لَا يَعْتِقُ وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنْ لَوْ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَكِتَابَةُ الْبَعْضِ وَكِتَابَةُ الْكُلِّ سَوَاءٌ فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا أَوَّلًا عَتَقَ كُلُّهُ مِنْ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ وَثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْهُ وَيَضْمَنُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا، إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ أَوْ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ فِي كِتَابَةِ الْآخَرِ فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: بَطَلَتْ كِتَابَةُ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْعَبْدُ أَوْ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لَا غَيْرُ.
وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَكَاتَبَاهُ جَمِيعًا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً، فَأَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا حِصَّتَهُ لَمْ يَعْتِقْ حِصَّتَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا شَرْطَ عِتْقِهِ أَدَاءَ جَمِيعِ الْمُكَاتَبَةِ فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِوُجُودِ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ فَكَاتَبَاهُمَا جَمِيعًا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ حَتَّى لَوْ أَدَّى حِصَّتَهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ هاهنا لَوْ جَعَلَ كُلَّ نِصْفٍ مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ لَأَدَّى إلَى تَغْيِيرِ شَرْطِهِمَا؛ لِأَنَّ شَرْطَهُمَا أَنْ يَعْتِقَ بِأَدَاءِ الْكُلِّ فَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَغْيِيرِ الشَّرْطِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ عِتْقَ أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ فَكَانَ الشَّرْطُ فِيهِ لَغْوًا.
مُكَاتَبٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِشَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ لِكَوْنِ الْعِتْقِ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا لِوُجُودِ الْإِعْتَاقِ مِنْهُمَا، وَإِنْ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا وَالْوَلَاءُ لَهُ، إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا يُنْظَرْ إلَى قَدْرِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَإِلَى بَاقِي الْكِتَابَةِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَقَلَّ ضَمِنَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي الْأَقَلِّ فَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ أَحَدُهُمَا وَلَكِنْ دَبَّرَهُ صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا وَيَكُونُ مُكَاتَبًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُنَافِي الْكِتَابَةَ، فَإِنْ أَدَّى الْكُلَّ عَتَقَ وَالْوَلَاءُ يَثْبُتُ مِنْهُمَا، وَإِنْ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا، وَلِشَرِيكِهِ خَمْسُ خِيَارَاتٍ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَأَرْبَعُ خِيَارَاتٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّأُ فَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ الْقِيمَةِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَمِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ الْكِتَابَةِ، وَلَوْ لَمْ يُدَبِّرْهُ.
وَلَكِنْ كَاتَبَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَصَارَ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى وَلَدَ مُكَاتَبَتِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَأْوِيلَ الْمِلْكِ، ثُمَّ الْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَتْ وَلَا تَصِيرُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ عِنْدَنَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ أَخَذَتْ مِنْهُ عُقْرَهَا وَاسْتَعَانَتْ بِهِ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَرُدَّتْ إلَى الرِّقِّ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَانِعَ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ فِيهَا قَدْ زَالَ وَيَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً وَنِصْفَ عُقْرِهَا، وَلَا يَغْرَمُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا: صَارَتْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ فَيَغْرَمُ لِلشَّرِيكِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْعُقْرِ.
وَمَنْ كِتَابَةِ شَرِيكِهِ عَبْدٌ كَافِرٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ، كَاتَبَ الذِّمِّيُّ نَصِيبَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ عَلَى خَمْرٍ جَازَتْ الْكِتَابَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا تَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَا شَرِكَةَ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا أَخَذَ النَّصْرَانِيُّ مِنْهُ مِنْ الْخَمْرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ مُتَجَزِّئَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْعِتْقِ، فَلَمَّا كَاتَبَ الذِّمِّيُّ نَصِيبَهُ عَلَى خَمْرٍ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَقَعَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى نَصِيبِ نَفَسِهِ خَاصَّةً، وَالذِّمِّيُّ إذَا كَاتَبَ نَصِيبَهُ عَلَى خَمْرٍ جَازَ، كَمَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ بِخَمْرٍ.
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ لَهُمَا حَيْثُ كَانَتْ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَلَمَّا بَطَلَ نَصِيبُ الْمُسْلِمِ بَطَلَ نَصِيبُ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهَا كِتَابَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهَا بَطَلَ كُلُّهَا، وَلَا شَرِكَةَ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا أَخَذَ النَّصْرَانِيُّ مِنْ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِ الْخَمْرِ.
وَإِنْ كَاتَبَاهُ جَمِيعًا عَلَى خَمْرٍ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا فِي نَصِيبِ الْمُسْلِمِ فَلَا يُشْكِلُ.
وَأَمَّا فِي نَصِيبِ الذِّمِّيِّ فَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهَا بَطَلَ الْكُلُّ وَلَوْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمُسْلِمِ، وَلِلذِّمِّيِّ نِصْفُ الْخَمْرِ وَإِنَّمَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فَاسِدَةٌ وَهَذَا حُكْمُ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ إذَا أَدَّى يَعْتِقُ كَمَا إذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ فَأَدَّى، إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمُسْلِمِ وَلَا يَسْعَى فِي نَصِيبِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ قَدْ سَلَّمَ لَهُ شَرْطَهُ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لَهُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ:

وَأَمَّا حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ وَيَنْدَرِجُ فِيهَا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُكَاتَبِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْمُكَاتَبَةُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: صَحِيحَةٌ، وَفَاسِدَةٌ، وَبَاطِلَةٌ.
أَمَّا الصَّحِيحَةُ فَلَهَا أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَزَوَالُ يَدِ الْمَوْلَى عَنْ الْمُكَاتَبِ وَصَيْرُورَةُ الْمُكَاتَبِ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ، وَصَيْرُورَةُ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهَا، وَثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمَوْلَى بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ لَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا وَهَلْ تَزُولُ رَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى بِالْكِتَابَةِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ عَامَّتُهُمْ: لَا تَزُولُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَزُولُ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي.
عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْمَبِيعَ يَزُولُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ صِفَةٌ إضَافِيَّةٌ فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِدُونِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الْإِضَافِيَّةِ مِنْ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مَمْلُوكٍ لَا مَالِك لَهُ.
وَهَكَذَا نَقُولُ فِي بَابِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْحَقِيقَةِ مِلْكُ الْبَائِعِ أَوْ مِلْكُ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْعَقْدَ يُجَازُ أَوْ يُفْسَخُ فَيَتَوَقَّفُ فِي عِلْمِنَا بِجَهْلِنَا بِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ أَوْ الْفَسْخِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلْبَائِعِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ حَتَّى يَظْهَرَ فِي حَقِّ الرِّوَايَةِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ.
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ كِتَابَةً صَحِيحَةً صَارَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِالْكَسْبِ، وَالتِّجَارَةُ كَسْبٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا مِنْ السَّفَرِ وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُسَافِرَ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالْكِتَابَةُ صَحِيحَةً لِمَا مَرَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكَسْبَ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لَهُ.
وَلَا يَجُوزُ لَهُ إجَارَتُهُ وَرَهْنُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَمَنَافِعُ الْمُكَاتَبِ لَهُ، وَالرَّهْنُ إثْبَاتُ مِلْكِ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ وَمِلْكِ الْيَدِ لِلْمُكَاتَبِ.
وَلَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُ وَاسْتِغْلَالُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ لَهُ.
وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ ابْتِدَاءً بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ يَعْتَمِدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَأَنَّهُ قَائِمٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا يَعْتِقْ مَجَّانًا، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا وَالْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَكَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لَكِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ حَالًا وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ مُؤَجَّلًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا خِيَارَ لَهُ، وَيَسْعَى فِي الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ سَبَقَتْ الْإِعْتَاقَ وَالْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ التَّدْبِيرِ وَلَوْ دَبَّرَهُ كَانَ حُكْمُهُ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ كَذَا إذَا أَعْتَقَهُ فِي الْمَرَضِ، وَيَجُوزُ لَهُ إعْتَاقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ.
وَلَوْ أَعْتَقَ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ أَوْ الْمُشْتَرَى فِي الْكِتَابَةِ جَازَ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ إعْتَاقُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ فِي إعْتَاقِهِ الْوَلَدَ إبْطَالَ حَقِّ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَ وَلَدِهِ الْمَوْلُودِ وَالْمُشْتَرَى، وَبِالْإِعْتَاقِ يَبْطُلُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ؛ لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمْ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَسْعَى فِي حُرِّيَّةِ نَفَسِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَقَدْ نَالَ هَذَا الْمَقْصُودَ، وَإِنَّمَا لَا يَسْقُطُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ كُلَّهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ بِعِتْقِ الْوَلَدِ.
وَلَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَتَقَ كَانَتْ هِيَ أُمَّ وَلَدٍ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مُكَاتَبَةً بِكِتَابَتِهِ فَلَا تَعْتِقُ بِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ.
وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ رِضَاهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُكَاتَبِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَهُوَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمُكَاتَبُ جَازَ وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كَانَ لِحَقِّ الْمُكَاتَبِ فَإِذَا رَضِيَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبَ إذَا اجْتَمَعَا فِي الْبَيْعِ قَالَ: الْبَيْعُ لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ الْمَوْلَى بِرِضَاهُ فَقَدْ تَرَاضَيَا عَلَى الْفَسْخِ فَيَكُونُ إقَالَةً، وَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ الْإِقَالَةَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِرِضَاهَا، وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْوَصِيَّةُ.
وَلَوْ كَاتَبَ جَارِيَةً لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِهَا، وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِي مَنَافِعِهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا غَرِمَ الْعُقْرَ لَهَا تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا فَعَلِقَتْ مِنْهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ إذَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، وَتَأْوِيلِ الْمِلْكِ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِحَقِيقَتِهِ أَوْلَى، صَدَّقَتْهُ الْمُكَاتَبَةُ أَوْ كَذَّبَتْهُ لِمَا مَرَّ، ثُمَّ إنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّة أَشْهُرٍ فَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ، وَالْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى كَتَابَتِهَا فَأَدَّتْ وَعَتَقَتْ وَأَخَذَتْ الْعُقْرَ إذَا كَانَ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَسَقَطَ الْعُقْرُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ.
وَلَوْ جَنَى الْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ غَرِمَ الْأَرْشَ لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى فَكَانَ فِي مَكَاسِبِهِ كَالْحُرِّ، وَكَذَا مَا اسْتَهْلَكَ الْمُكَاتَبُ مِنْ مَال الْمَوْلَى لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَتَهُ0 لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَتْ الْمُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءً النِّكَاحَ وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَالْعِدَّةِ إنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ إنْشَاءِ النِّكَاحِ وَإِذَا طَرَأَتْ عَلَى النِّكَاحِ لَا تُبْطِلُهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِمَوْتِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَمْلِكُ الْمَكَاتِبَ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، بَلْ يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمِلْكِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْبَقَاءِ فَكَذَا هَذَا.
وَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى السَّارِقِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِيهِ كَالْحُرِّ فَيَقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ.
وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى إنْسَانٍ خَطَأً فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ، فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ إذَا جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ.
وَالْحُكْمُ هُنَاكَ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَاهُنَا، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا دَفَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ لِكَوْنِ الرَّقَبَةِ مِلْكَ الْمَوْلَى، وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى جِنَايَاتٍ خَطَأً قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَثُرَتْ جِنَايَاتُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ جِنَايَةٍ الْأَقَلُّ مِنْ أَرْشِهَا وَمِنْ قِيمَتِهِ، وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ جِنَايَاتِهِ تَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ أَوْ بِذِمَّتِهِ، فَعِنْدَنَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، وَالرَّقَبَةُ لَا تَتَّسِعُ لِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعِنْدَهُ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، وَالذِّمَّةُ مُتَّسِعَةٌ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا إنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى، فَإِنَّهَا مَقْدُورُ الدَّفْعِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَعْجِزَ فَيَدْفَعَ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ بِالْمَنْعِ السَّابِقِ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِهَا، وَهُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ هَاهُنَا، هَذَا إذَا جَنَى ثَانِيًا قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى.
فَأَمَّا إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى ثُمَّ جَنَى ثَانِيًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَةٌ أُخْرَى بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ رَقَبَتِهِ إلَى ذِمَّتِهِ فَحَصَلَتْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ، وَالرَّقَبَةُ فَارِغَةٌ عَنْ جِنَايَتِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ الْمُبْتَدَأَةِ.
فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا حَفَرَ الْمُكَاتَبُ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ حَفَرَ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا آخَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى أَوْ لَمْ يَحْكُمْ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ حَفْرُ الْبِئْرِ فَالضَّمَانُ الَّذِي يَلْزَمُهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَوُقُوعُ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَكِنْ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى حُكْمِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ.
فَأَمَّا هاهنا فَقَدْ تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ، وَالثَّانِيَةُ حَصَلَتْ بَعْدَ فَرَاغِ رَقَبَتِهِ عَنْ الْأُولَى وَانْتِقَالِهَا إلَى ذِمَّتِهِ فَيَتَعَدَّدُ السَّبَبُ فَيَتَعَدَّدُ الْحُكْمُ، وَلَوْ سَقَطَ حَائِطٌ مَائِلٌ أُشْهِدَ عَلَيْهِ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ النَّقْضَ فَيَصِحُّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحُرِّ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ فِي دَارِ الْمُكَاتَبِ قَتِيلٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ فَيَنْتَقِصَ مِنْهَا عَشْرَةَ دَرَاهِمَ.
فَإِنْ جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى بِهَا دَفَعَهُ مَوْلَاهُ بِهَا أَوْ فَدَاهُ، وَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ ثُمَّ عَجَزَ فَهِيَ دَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ لَمْ تَصِرْ الْقِيمَةُ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ فَهُوَ كَعَبْدٍ قِنٍّ جَنَى جِنَايَةً، أَنَّهُ يُخَاطِبُ مَوْلَاهُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ صَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ فَإِذَا عَجَزَ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ عَبْدٍ لَحِقَهُ الدَّيْنُ أَنَّهُ يُبَاعُ أَوْ يَقْضِي السَّيِّدُ دَيْنَهُ، هَذَا إذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا بِأَنْ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا قُتِلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُرًّا لَقُتِلَ بِهِ فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى، هَذَا إذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى غَيْرِهِ.
فَأَمَّا إذَا جَنَى غَيْرُهُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَالْأَرْشُ لَهُ وَأَرْشُهُ أَرْشُ الْعَبْدِ.
أَمَّا كَوْنُ الْأَرْشِ لَهُ فَلِأَنَّ أَجْزَاءَهُ مُلْحَقَةٌ بِالْمَنَافِعِ وَهُوَ أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ.
وَأَمَّا كَوْنُ أَرْشِهِ أَرْشَ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ بِالْحَدِيثِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ جِنَايَةً عَلَى الْعَبْدِ فَكَانَ أَرْشُهَا أَرْشَ الْعَبِيدِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِهِمْ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَقَدْ مَاتَ عَاجِزًا فَمَاتَ عَبْدًا وَالْعَبْدُ إذَا قُتِلَ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ إنْ كَانَ عَبْدًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا عِنْدَنَا كَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ عَمْدًا وَيَتْرُكَ وَفَاءً وَيَتْرُكَ وَرَثَةً أَحْرَارًا سِوَى الْمَوْلَى فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِاشْتِبَاهِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ قَالَ: مَاتَ حُرًّا قَالَ: وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْوَرَثَةِ، وَمَنْ قَالَ: مَاتَ عَبْدًا قَالَ: الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى.
فَاشْتَبَهَ الْمَوْلَى فَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، فَإِنْ قِيلَ قِيَاسُ هَذِهِ النُّكْتَةِ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمَوْلَى وَالْوَرَثَةُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ لِارْتِفَاعِ الِاشْتِبَاهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ إذَا قُتِلَ، أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَا فَيَقْتُلَا، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا قُتِلَ فَاجْتَمَعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى الْقِصَاصِ أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَاهُ كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَانِعَ هُوَ اشْتِبَاهُ الْمَوْلَى وَهَذَا الِاشْتِبَاهُ لَا يَزُولُ بِالِاجْتِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمَوْلَى أَوْ الْوَارِثُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاشْتِبَاهِ لَا يَزُولُ بِاجْتِمَاعِهِمَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا اشْتِبَاهَ.
فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَإِنَّمَا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ فِيهَا حَقٌّ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي الِاسْتِيفَاءِ فَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، وَيَقُولُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ حَقِّي قَوِيٌّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ قُتِلَ فَاجْتَمَعَ الْوَلِيَّانِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْقِصَاصِ هُنَاكَ هُوَ الرَّاهِنُ إذْ الْمِلْكُ لَهُ إلَّا أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقًّا فَإِذَا رَضِيَ بِالِاسْتِبْقَاءِ فَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ عَمْدًا أَوْ يُتْرَكَ وَفَاءً وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَى الْمَوْلَى.
فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ هاهنا لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَيْفَمَا كَانَ سَوَاءٌ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَشْتَبِهْ فَسَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ قَدْ اشْتَبَهَ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ حُرًّا فَالْوِلَايَةُ تَثْبُتُ بِالْإِرْثِ، وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا فَالْوِلَايَةُ تَثْبُتُ بِالْمِلْكِ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَشْتَبِهْ؛ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمِلْكُ وَالْوَلَاءُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ، وَالثَّانِي: إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ اشْتَبَهَ لَكِنْ لَا اشْتِبَاهَ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ فَتَثْبُتُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ.
فَإِنْ قُتِلَ ابْنُ الْمُكَاتِبِ أَوْ عَبْدُهُ عَمْدًا، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ وَهُوَ أَبُو الْمَقْتُولِ أَوْ مَوْلَى الْعَبْدِ لَوْ عَتَقَ كَانَ الْقِصَاصُ لَهُ، وَلَوْ عَجَزَ كَانَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى فَاشْتَبَهَ الْوَلِيُّ، وَبِهَذَا عَلَّلَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: لِأَنِّي لَا أَدْرِي أَنَّهُ لِلْمَوْلَى أَوْ لِلْمُكَاتَبِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَقْتَصَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِأَحَدِهِمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَإِنْ عَفَوَا فَعَفْوُهُمَا بَاطِلٌ، وَالْقِيمَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمُكَاتَبِ أَمَّا بُطْلَانُ الْعَفْوِ.
فَأَمَّا عَفْوُ الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ، فَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ وَإِمَّا عَفْوُ الْمُكَاتَبِ فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَى الْقَاتِلِ فَكَانَ إبْرَاءُ الْمُكَاتَبِ تَبَرُّعًا مِنْهُ، وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ.
فَإِنْ قَتَلَ مَوْلَى مُكَاتَبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ بِلَا شَكَّ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَصِيرُ شُبْهَةً سَوَاءٌ تَرَكَ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَتْرُكْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِمَا قُلْنَا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ وَفَاءً فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ يَقْضِي بِهَا كِتَابَتَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الدِّيَةُ فَسَقَطَ عَنْهُ قَدْرُ مَالِهِ مِنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ دِيَتَيْنِ الْتَقَيَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ فِي إسْقَاطِهِ إبْطَالُ الْعَقْدِ، وَلَا اسْتَحَقَّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ قِصَاصًا وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِوَارِثِهِ لَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَاتِلُهُ فَلَا يَرِثُهُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ قِصَاصًا إذَا حَلَّ أَجَلُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ مُؤَجَّلَةً.
وَلَوْ قَتَلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبَةِ رَجُلًا خَطَأً يُقَالُ لِلْمُكَاتِبِ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ تِجَارَتِهِ وَكَسْبِهِ فَكَانَ التَّدْبِيرُ إلَيْهِ.
كَعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَنَى جِنَايَةً خَطَأً أَنَّهُ يُخَيِّرُ الْمَأْذُونُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، فَالْمُكَاتِبُ أَوْلَى بِخِلَافِ نَفْسِ الْمُكَاتَبِ إذَا جَنَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمُكَاتَبِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ بِخِلَافِ كَسْبِهِ، وَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ النَّقْلَ فَتَعَذَّرَ الدَّفْعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ نَفْسَ الْعَبْدِ الْجَانِي مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ، وَثَمَّةَ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ كَذَا هَاهُنَا.
وَيُؤْخَذُ الْمُكَاتَبُ بِأَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَنَحْوِهَا؛ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالْقَذْفِ لَا الْقِنُّ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهَا فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى.
وَلَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَكَذَا لَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ مِنْ ابْنِ مَوْلَاهُ، وَلَا مِنْ امْرَأَةِ مَوْلَاهُ، وَلَا مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ لَوْ سَرَقَ حَقَّ الْمَوْلَى لَا يُقْطَعُ فَكَذَا مُكَاتَبُهُ وَكَذَا لَوْ سَرَقَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُكَاتَبِ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ سَرَقَ مِنْ الْمَوْلَى لَا يُقْطَعُ، فَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ الْمُكَاتَبِ.
وَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ أَجْنَبِيٌّ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ وَمَنَافِعِهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ كَالْحُرِّ فَيَقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ.
وَيَصِحُّ مِنْ الْمَوْلَى وَغَيْرِهِ نَسَبُ وَلَدِ أَمَتِهِ الْمُكَاتَبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ صَدَّقَتْهُ الْمُكَاتَبَةُ أَوْ كَذَّبَتْهُ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِأَكْثَرَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدَ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ رَقَبَةً فَكَانَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا لَهُ أَيْضًا، وَنَسَبُ وَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمَمْلُوكَةِ يَثْبُتُ بِالدَّعْوَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّصْدِيقِ، ثُمَّ الْأَمَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ فَلَهَا الْعُقْرُ إنْ كَانَ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِمَنَافِعِهَا وَمَكَاسِبِهَا، وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهَا، وَالْعُقْرُ بَدَلُ مَنَافِعِ بُضْعِهَا فَيَكُونُ لَهَا، وَإِنْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ سَقَطَ الْعُقْرُ، هَذَا إذَا اسْتَوْلَدَ مُكَاتَبَتَهُ.
فَإِنْ دَبَّرَ مُكَاتَبَتَهُ فَكَذَلِكَ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْكِتَابَةَ، وَإِنْ شَاءَ مَضَى عَلَيْهَا لِتَوَجُّهِ الْعِتْقِ إلَيْهِ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ مَاتَ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَلَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِمَا قُلْنَا وَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ.
وَلَا يُحْبَسُ الْمُكَاتَبُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ قَاصِرٌ حَتَّى لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ يَقُولُ بِأَنَّهُ دَيْنٌ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَلَنَا أَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ ثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْكَفِيلِ بِمِثْلِ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ دَيْنٌ يُحْبَسُ بِهِ وَدَيْنٌ لَا يُحْبَسُ بِهِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الْكَفَالَةَ بِهِ لَمْ يَكُنْ الثَّابِتُ بِهَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، فَلَا يَتَحَقَّقُ حُكْمُ الْكَفَالَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهُوَ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَعْتِقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذَا أَعْطَى مِقْدَارَ قِيمَتِهِ عَتَقَ ثُمَّ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ فَهُوَ غَرِيمٌ مِنْ الْغُرَمَاءِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ شُرَيْحٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَجْهُ قَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ إنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَإِذَا أَدَّى الْعَبْدُ بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَوْلَى فَقَدْ مَلَكَ الْمَوْلَى ذَلِكَ الْقَدْرَ، فَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ مِنْ نَفَسِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَاجْتَمَعَ لِلْمَوْلَى مِلْكُ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ مَالِيَّةٌ فَلَوْ عَتَقَ بِأَدَاءِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمَوْلَى، وَإِذَا أَدَّى قَدْرَ قِيمَتِهِ فَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمَوْلَى، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتِقْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَوَجَبَ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ إعْتَاقٌ عَلَى مَالٍ، وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ وَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ، وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَجْهُ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا أَدَيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْأَلْفِ، كَذَا هاهنا ثُمَّ الْعِتْقُ كَمَا يَثْبُتُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَثْبُتُ بِأَدَاءِ الْعِوَضِ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ عِوَضَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ كَأَنَّهُ هُوَ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ، وَقَضَاءُ الدُّيُونِ يَكُونُ بِأَعْوَاضِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا، وَكَذَا يَثْبُتُ بِالْإِبْرَاءِ لِمَا نَذْكُرُ.
ثُمَّ إذَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَعَتَقَ يَعْتِقُ وَلَدُهُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ بِأَنْ وُلِدَ لِلْمُكَاتَبِ وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ اشْتَرَاهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَاتَبًا تَبَعًا لِلْأَبِ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَ الْأَبَ دُونَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ مَقْصُودًا بَلْ تَبَعًا، فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ التَّبَعِ حَالَ قِيَامِ الْمَتْبُوعِ.
وَكَمَا يَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ بِالْأَدَاءِ مِنْ كَسْبِهِ يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ مِنْ كَسْبِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ كَسْبُهُ.
فَإِذَا أَدَّى يَعْتِقُ هُوَ وَوَلَدُهُ، وَكَذَا وَلَدُهُ الْمُشْتَرِكُ فِي الْكِتَابَةِ، وَوَلَدُ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ، وَالْوَالِدُونَ وَإِنْ عَلَوْا، إذَا اشْتَرَاهُمْ الْمُكَاتَبُ يَدْخُلُونَ فِي الْكِتَابَةِ كَالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ سَوَاءً، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ مِنْ غَيْرِ مَالٍ يُقَالُ لِلْوَلَدِ الْمُشْتَرَى وَلِلْوَالِدَيْنِ: إمَّا أَنْ تُؤَدُّوا الْكِتَابَةَ حَالًا، وَإِلَّا رَدَدْنَاكُمْ فِي الرِّقِّ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ لِمَا نَذْكُرُ وَأَمَّا مَا سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَنَحْوِهِمْ فَهَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْكِتَابَةِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَدْخُلُونَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَدْخُلُونَ وَيَسْعَوْنَ عَلَى النُّجُومِ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ إذَا مَلَكَهُ الْحُرُّ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ وَيَقُومُ مَقَامَهُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ، وَالْحُكْمُ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا.
فَكَذَا فِي كَسْبِ الْكَسْبِ الْمُفْضِي إلَيْهِ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ فِي الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ كَذَا هاهنا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَثْبُتَ التَّكَاتُبُ رَأْسًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّبَرُّعِ وَالْعِتْقِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حُرِّيَّةِ نَفَسِهِ، إلَّا أَنَّ حُرِّيَّةَ وَلَدِهِ وَأَبَوَيْهِ فِي مَعْنَى حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ لِمَكَانِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهِمْ عَلَى الْأَصْلِ، وَبَدَلُ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدْخُلَ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ، وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ لَا يَسْرِي لِلْإِكْسَابِ؛ كَكَسْبِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّا الْوِلَادَ بِحُكْمِ الْحُرِّيَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ وَالْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ قَبْلَ الْعَقْدِ لَا يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ، وَيَكُونُ لِلْمَوْلَى.
وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَوْلَى: وُلِدَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَقَالَتْ الْمُكَاتَبَةُ: بَعْدَ الْعَقْدِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إنَّهُ انْفَصَلَ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْأَمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَيَحْكُمُ فِيهِ الْحَالُ؛ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا أَوْ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فَادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ الْإِبَاقَ وَالْمُؤَاجِرُ يُنْكِرُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي الْحَالِ آبِقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ آبِقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَاجِرِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّاحُونَةِ إذَا اخْتَلَفَا فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَجَرَيَانِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ مُنْقَطِعًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَاجِرِ، وَلَوْ تَصَادَقَا فِي الْإِبَاقِ وَالِانْقِطَاعِ وَاخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ الْإِبَاقِ وَالِانْقِطَاعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرُ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَدَاءُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمَا حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ إلَى وَرَثَتِهِ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ.
وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ يُؤَدَّى بَدَلُ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَوْلَى وَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْتِقُ وَيُسَلَّمُ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُكَاتَبَةِ عِنْدَنَا، كَمَا لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى.
وَعِنْدَهُ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُكَاتَبِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَمُوتُ حُرًّا فَيُؤَدَّى بَدَلُ كِتَابَتِهِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ، وَبِهِ أَخَذَ أَصْحَابُنَا، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَبْدًا وَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَوْ عَتَقَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَعْتِقَ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتِقَ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ، وَالْأَدَاءُ لَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعِتْقِ قَدْ فَاتَ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الرِّقُّ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ، وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ مُحَالٌ، فَامْتَنَعَ الْقَوْلُ بِالْعِتْقِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَعْتِقُ مُسْتَنِدًا إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلْعِتْقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْحَالِ، ثُمَّ يَسْتَنِدُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَكُمْ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مُسْتَنِدًا، فَيُرَاعَى قِيَامُ مَحَلِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ، وَالْمَحَلُّ هاهنا لَا يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ لِلْحَالِ، فَلَا يَسْتَنِدُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إنَّ شُرَيْحًا قَالَ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بُدِئَ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ.
فَقَالَ سَعِيدٌ: أَخْطَأَ شُرَيْحٌ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا، فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بُدِئَ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ، فَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي التَّرْتِيبِ وَالْمَيْلُ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى بَقَاءِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَرِوَايَةُ قَتَادَةَ تُشِيرُ إلَى إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا قُلْنَا، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَلَّقٌ بِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ، وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً بِأَخْذِ الْعِوَضِ أَوْ الْإِبْرَاءِ لَا بِصُورَةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً أَصْلًا بِأَخْذِ الْمَوْلَى وَبِالْإِبْرَاءِ، وَقَدْ سَلِمَ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً بِالْإِبْرَاءِ أَمَّا طَرِيقُ الِاسْتِيفَاءِ فَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبِ، وَحُكْمُهُ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى مِلْكُ الْبَدَلِ وَسَلَامَتُهُ، وَفِي جَانِبِ الْمُكَاتَبِ سَلَامَةُ رَقَبَتِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَسَلَامَةُ أَوْلَادِهِ وَأَكْسَابِهِ حَالَ سَلَامَةِ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى، وَفِي الْحَالِ زَوَالُ يَدِ الْمَوْلَى عَنْهُ وَصَيْرُورَتُهُ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي الْمُبْدَلِ لِلْمَوْلَى فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ لِلْحَالِ، حَتَّى لَوْ تَبَرَّعَ عَنْهُ إنْسَانٌ بِالْأَدَاءِ وَقَبِلَ الْمَوْلَى صَحَّ، وَلَوْ أَبْرَأهُ جَازَ الْإِبْرَاءُ وَيَعْتِقُ.
وَلَوْ أَحَالَ الْمُكَاتَب عَلَى غَرِيمٍ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ أَكْسَابِهِ وَقَبِلَ الْمَوْلَى صَحَّ وَعَتَقَ.
وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي الْبَدَلِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ الْمُبْدَلُ مِنْ مِلْكِهِ، وَهُوَ رَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ، وَتَسْلَمُ لَهُ رَقَبَتُهُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، إذْ الْمُعَاوَضَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالرَّقَبَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ.
إلَّا أَنَّ الزَّوَالَ لَوْ ثَبَتَ هاهنا لِلْحَالِ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، وَيَتَكَامَلُ فِي الْأَدَاءِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَوْلَى فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ عَنْ الْكِتَابَةِ، فَشُرِعَ هَذَا الْعَقْدُ عَلَى خِلَافِ مُوجَبِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي ثُبُوتِ السَّلَامَةِ وَزَوَالِ الْمُبْدَلِ عَنْ الْمَوْلَى إلَّا بِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ، نَظَرًا لِلْمَوَالِي وَتَرْغِيبًا لَهُمْ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَنَظَرًا لِلْعَبِيدِ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى الْعِتْقِ، فَإِذَا جَاءَ آخِرُ حَيَاتِهِ وَعَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ انْتَقَلَ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى أَكْسَابِهِ كَمَا فِي الْحُرِّ، إلَّا أَنَّ الْكَسْبَ قَدْ لَا يَسْلَمُ لَهُ إمَّا بِالْهَلَاكِ، أَوْ بِأَخْذِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى فَيَسْلَمُ الْمُبْدَلُ لِلْمُكَاتَبِ، وَهُوَ رَقَبَتُهُ لَهُ.
وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ آخِرَ حَيَاتِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ لَعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، وَانْتَقَلَ إلَى الْمَالِ خَلَفًا عَنْ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ، فَيُطَالِبُ بِهِ وَصِيُّهُ، أَوْ وَارِثُهُ، أَوْ وَصِيُّ الْقَاضِي، فَإِذَا أَدَّى النَّائِبُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْ النَّائِبِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَيَبْرَأُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَعْتِقُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ هُوَ مِنْ صُورَةِ الْأَدَاءِ، بَلْ سَلَامَةُ الْبَدَلِ صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ مَعْنًى بِالْإِبْرَاءِ وَقَدْ حَصَلَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بَعْدَ الْأَدَاءِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَيَبْقَى حَيًّا تَقْدِيرًا لِإِحْرَازِ شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ، كَمَا يَبْقَى الْمَوْلَى حَيًّا بَعْدَ الْمَوْتِ تَقْدِيرًا لِإِحْرَازِ شَرَفِ الْكِتَابَةِ، وَيَثْبُتُ الْعِتْقُ فِيهِ، وَهُوَ مُثْبَتٌ حَقِيقَةً وَيُقَدَّرُ حَيًّا عَلَى اخْتِلَافِ طَرِيقِ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَك وَفَاءً وَأَوْلَادًا أَحْرَارًا بِأَنْ وُلِدُوا مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، يُؤَدَّى بَدَلُ كِتَابَتِهِ وَمَا فَضَلَ يَكُونُ مِيرَاثًا بَيْنَ أَوْلَادِهِ الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَعْتِقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ، ثُمَّ يَمُوتُ فَيَمُوتُ حُرًّا فَيَرِثُ مِنْهُ أَوْلَادُهُ الْأَحْرَارُ، وَكَذَلِكَ أَوْلَادُهُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُكَاتَبِينَ تَبَعًا لَهُ، فَإِذَا عَتَقَ هُوَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ يَعْتِقُونَ هُمْ أَيْضًا تَبَعًا لَهُ، فَإِذَا مَاتَ هُوَ فَقَدْ مَاتَ حُرًّا وَهُمْ أَحْرَارٌ فَيَرِثُونَهُ، وَكَذَا أَوْلَادُهُ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ فِي الْكِتَابَةِ وَوَلَدَاهُ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا وَلَدُهُ الَّذِي كُوتِبَ مَعَهُ كِتَابَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ مَعَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَيَرِثُهُ، وَأَمَّا وَلَدُهُ الَّذِي كَاتَبَهُ كِتَابَةً عَلَى حِدَةٍ لَا يَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهِ فَيَمُوتُ حُرًّا وَوَلَدُهُ مُكَاتَبٌ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَرِثُ الْحُرَّ.
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَجْنَبِيٌّ، وَدِينُ الْمَوْلَى غَيْرُ الْكِتَابَةِ، وَلَهُ وَصَايَا مِنْ تَدْبِيرِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَتَرَك وَلَدًا حُرًّا، أَوْ وَلَدًا وُلِدَ لَهُ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ أَمَتِهِ، يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجَانِبِ، ثُمَّ بِدَيْنِ الْمَوْلَى، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ بَيْنَ سَائِرِ أَوْلَادِهِ، وَبَطَلَتْ وَصَايَاهُ.
أَمَّا بُطْلَانُ وَصَايَاهُ فَلِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَخُصُّ التَّدْبِيرَ، وَالثَّانِي يَعُمُّ سَائِرَ الْوَصَايَا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ إذَا أَدَّى عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، وَذَلِكَ زَمَانٌ لَطِيفٌ لَا يَسَعُ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْوَارِثِ، وَالْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ يَثْبُتُ بِعَقْدِ الْوَصِيَّةِ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ، فَإِذَا لَمْ يَتَّسِعْ الْوَقْتُ لَهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَصَايَا بَقِيَتْ الدُّيُونُ.
وَأَمَّا تَرْتِيبُ الدُّيُونِ فَيُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْأَقْوَى فَالْأَقْوَى، كَمَا فِي دَيْنِ الصِّحَّةِ مَعَ دَيْنِ الْمَرَضِ، وَدِينُ الْأَجْنَبِيِّ أَقْوَى مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالرِّقِّ دَيْنُ الْمَوْلَى، وَلَا يَبْطُلُ دَيْنُ الْأَجْنَبِيِّ بَلْ يُبَاعُ فِيهِ، فَيَبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ بِدَيْنِ الْمَوْلَى وَبِالْكِتَابَةِ بُدِئَ بِدَيْنِ الْمَوْلَى، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى أَقْوَى مِنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَلَا تَصِحُّ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ إسْقَاطَ دَيْنِ الْمُكَاتَبَةِ عَنْ نَفَسِهِ قَصْدًا بِأَنْ يُعَجِّزَ نَفَسَهُ، وَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ دَيْنِ الْمَوْلَى قَصْدًا بَلْ يَسْقُطُ ضَرُورَةً بِسُقُوطِ الْكِتَابَةِ، فَكَانَ دَيْنُ الْمَوْلَى أَقْوَى فَيُقَدَّمُ عَلَى دَيْنِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِالدُّيُونِ جَمِيعًا بُدِئَ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بُدِئَ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَوْلَى لَبَطَلَ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَضَى ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ عَاجِزًا، فَيَكُونُ قَدْ مَاتَ عَاجِزًا، فَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ، فَلَمْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ صَارَ قِنًّا، وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ الْقِنِّ دَيْنٌ، وَلَيْسَ فِي الْبُدَاءَةِ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ إبْطَالُ الْقَضَاءِ، فَيَكُونُ أَوْلَى، فَيُبْدَأُ بِالْكِتَابَةِ حَتَّى يَعْتِقَ، وَيَكُونُ دَيْنُ الْمَوْلَى فِي ذِمَّتِهِ، فَرُبَّمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ إذَا ظَهَرَ لَهُ مَالٌ، وَمَا فَضَلَ عَنْ هَذِهِ الدُّيُونِ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِأَوْلَادِهِ الْأَحْرَارِ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، وَلِأَوْلَادِهِ الْمَوْلُودِينَ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا بِعِتْقِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَرِثُونَ كَالْحُرِّ الْأَصْلِ.
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ وَمُكَاتَبَةٌ وَمَهْرٌ، وَأَوْلَادٌ أَحْرَارٌ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، وَأَوْلَادٌ وُلِدُوا فِي الْكِتَابَةِ مِنْ أَمَتِهِ، وَأَوْلَادٌ اشْتَرَاهُمْ، يُبْدَأُ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ، ثُمَّ يَكُونُ الْبَاقِي مِيرَاثًا لِجَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى مِنْ الْكِتَابَةِ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ كَأَنَّ الْمُكَاتَبَ قِنٌّ، فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ.
وَمَتَى قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ يَصِيرُ عَاجِزًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاقِي وَفَاءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ، وَكَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِالْخِيَارِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا وَبَطَلَتْ الْجِنَايَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ فِي مَالِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّهُ فِي الرَّقَبَةِ، وَقَدْ فَاتَتْ الرَّقَبَةُ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ بِالْجِنَايَةِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الدُّيُونِ.
وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَ نِكَاحًا صَحِيحًا بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الدُّيُونِ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ شَيْءٌ مَا لَمْ يَقْضِ سَائِرَ الدُّيُونِ وَالْجِنَايَةِ وَالْكِتَابَةِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُصْرَفْ إلَى الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إنَّمَا يُتْبَعُ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا زَالَ حَقُّ الْمَوْلَى فَحِينَئِذٍ يُؤَاخَذُ بِهِ، فَإِنْ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ وَحُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ وَحُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ صَارَ الْبَاقِي مِيرَاثًا لِأَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا بِعِتْقِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَاتَبَ الِابْنَ مُكَاتَبَةً عَلَى حِدَةٍ لَا يَرِثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهِ وَلَا يَسْتَنِدُ عِتْقُهُ فِي حَقُّهُ، فَلَا يَرِثُ مِنْهُ.
وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ وَتَرَكَ وَلَدًا مَوْلُودًا فِي الْكِتَابَةِ، بِأَنْ وَلَدَتْ أَمَتُهُ الَّتِي اشْتَرَاهَا، بِأَنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ تَزَوَّجَ أَمَةَ إنْسَانٍ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، فَوَلَدَتْ مِنْهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا الْمُكَاتَبُ وَوَلَدَهَا، أَوْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا، فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي الْكِتَابَةِ عَلَى نُجُومِ أَبِيهِ وَلَا يَبْطُلُ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ لَا عَنْ وَفَاءٍ فَقَدْ مَاتَ عَاجِزًا، فَقَامَ الْوَلَدُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ حَيٌّ.
وَلَوْ كَانَ حَيًّا حَقِيقَةً لَكَانَ يَسْعَى عَلَى نُجُومِهِ، فَكَذَا وَلَدُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَادِرًا فَيُؤَدَّى بَدَلُ الْكِتَابَةِ لِلْحَالِ وَلَا يُؤَخَّرُ إلَى أَجَلِهِ، بَلْ يَبْطُلُ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ مَوْتَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ يُبْطِلُ الْأَجَلَ فِي الْأَصْلِ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَيْسَ هاهنا أَحَدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ حَتَّى يُجْعَلَ كَأَنَّهُ حَيٌّ، وَإِذَا أَدَّى السِّعَايَةَ عَتَقَ أَبُوهُ وَهُوَ.
وَأَمَّا وَلَدُهُ الْمُشْتَرَى فِي الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْعَى عَلَى نُجُومِهِ، بَلْ يُقَالُ: لَهُ إمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ حَالًا أَوْ تُرَدَّ إلَى الرِّقِّ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ، بَلْ يَسْعَى عَلَى نُجُومِ أَبِيهِ وَلَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ، إلَّا إذَا أَخَلَّ بِنَجْمٍ أَوْ بِنَجْمَيْنِ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْوَلَدِ فِي الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَتَبَعِيَّةُ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ أَشَدُّ مِنْ تَبَعِيَّةِ الْمُشْتَرَى فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ، وَالْجُزْئِيَّةُ فِي الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ حَصَلَتْ فِي الْعَقْدِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ نَفْسِهِ، وَالْحُكْمُ فِي الْمُكَاتَبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا فِيهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَلَدُ الْمُشْتَرَى؛ لِأَنَّ جُزْئِيَّةً مَا حَصَلَتْ فِي الْعَقْدِ فَانْحَطَّتْ دَرَجَتُهُ عَنْهُ، فلابد مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ تَرْتِيبًا لِلْأَحْكَامِ عَلَى مَرَاتِبِ الْحُجَجِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِ الْكَافِي الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَجَعَلَ مَا ذَكَرْنَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْوَلَدُ الْمُشْتَرَى، وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ سَوَاءٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّكَاتُبَ عَلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ لِمَكَانِ التَّبَعِيَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْمُشْتَرَى، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ فِي الْمَوْلُودِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْمُشْتَرَى فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ، وَلَوْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ وَتَرَكَ الدُّيُونَ الَّتِي ذَكَرْنَا فَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَى الْوَلَدِ يَبْدَأُ بِأَيِّ ذَلِكَ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً صَارَ التَّدْبِيرُ إلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مِنْ كَسْبِهِ فَيَبْدَأُ بِأَيِّ ذَلِكَ شَاءَ، فَإِنْ أَخَلَّ بِنَجْمٍ، أَوْ بِنَجْمَيْنِ عَلَى الِاخْتِلَافِ يُرَدَّ فِي الرِّقِّ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ غَائِبًا وَبَعْضُهُمْ حَاضِرًا فَعَجَزَ الْحَاضِرُ لَا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِجَوَازِ أَنَّ الْغَائِبَ يَحْضُرُ فَيُؤَدِّي.
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لَكِنَّهُ تَرَكَ أُمَّ وَلَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ بِيعَتْ فِي الْمُكَاتَبَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ اسْتَسْعَتْ فِيهَا عَلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ لِلْمُكَاتَبِ صَغِيرًا كَانَ وَلَدُهَا أَوْ كَبِيرًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا اشْتَرَى أُمَّ وَلَدٍ وَلَيْسَ مَعَهَا وَلَدٌ فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مُكَاتَبَتِهِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا الْمُوَالَاةُ عِنْدَهُمَا تَدْخُلُ فِي مُكَاتَبَتِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ تَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ لَمَّا دَخَلَتْ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا فَإِنَّهَا تَتْبَعُ وَلَدَهَا فِي الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ وَلَدَتْهُ فِي الْكِتَابَةِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الِابْنَ قَامَ مَقَامَهُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا إنَّمَا تَسْعَى؛ لِأَنَّ عَتَاقَ الِاسْتِيلَادِ بِمَنْزِلَةِ عَتَاقِ النَّسَبِ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَلَدِ، فَكَانَ حَالُهَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ وَقَبْلَهُ وَاحِدًا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا وِرَاثَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي كِتَابَتِهِ لِكِتَابَةِ وَلَدِهَا تَبَعًا، فَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ بَطَلَتْ كِتَابَتُهَا؛ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْوَلَدِ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ فَيَبْطُلُ مَا كَانَ تَبَعًا لَهُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَلَوْ وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدًا وَاشْتَرَتْ وَلَدًا، ثُمَّ مَاتَتْ سَعْيًا فِي الْكِتَابَةِ عَلَى النُّجُومِ وَاَلَّذِي يَلِي الْأَدَاءَ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ فِي الْكِتَابَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُكَاتَبِ، وَالْوَلَدُ الْمُشْتَرَى لَا يَقُومُ مَقَامَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ، أَوْ عَلَى الِاخْتِلَافِ، إلَّا أَنَّهُ يَسْعَى تَبَعًا لِلْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، فَإِنْ قُلْت: فَلَا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ شَيْءٌ مِنْ السِّعَايَةِ، قَالَ: لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَدَعْ غَيْرَهُ بِيعَ، إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ عَاجِلًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الَّذِي يَلِي الْأَدَاءَ هُوَ الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمُشْتَرَى لَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُكَاتَبِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، أَوْ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُكَاتَبَةُ وَلَوْ كَاتَبَ حَيَّةً لَكَانَتْ تَمْلِكُ كَسْبَ وَلَدِهَا الْمُشْتَرَى، فَكَذَا الَّذِي يَقُومُ مَقَامَهَا، وَإِنْ سَعَى الْمُشْتَرَى فَأَدَّى الْكِتَابَةَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَخِيهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْكِتَابَةَ مِنْ كَسْبِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ كَسْبَ أُمِّ الْوَلَدِ الْمُشْتَرَى لِلْأُمِّ، فَإِذَا أَدَّى الْكِتَابَةَ مِنْ كَسْبِهِ فَقَدْ أَدَّى كِتَابَةَ الْأُمِّ، وَكَسْبُهُ لَهَا، فَلَا يَرْجِعُ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ قَائِمٌ مَقَامَهَا.
وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ بَاقِيَةً فَأَدَّى الْوَلَدُ الْمُشْتَرَى فَعَتَقَتْ الْأُمُّ لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ كَذَا هَذَا، وَكَذَا الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ لَوْ سَعَى وَأَدَّى لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرَى بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا إذَا أَدَّى الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ مَالٍ تَرَكَتْهُ الْأُمُّ، فَأَمَّا إذَا أَدَّى مِنْ كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى الْمُشْتَرَى، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ حُكْمَ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُشْتَرَى: إنَّهُ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ، وَلَوْ اكْتَسَبَ هَذَا الِابْنُ الْمُشْتَرَى كَسْبًا كَانَ لِأَخِيهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَسْتَعِينَ بِهِ فِي كِتَابَتِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ، وَهِيَ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً لَكَانَتْ تَمْلِكُ أَخْذَ كَسْبِ الْمُشْتَرَى، وَكَذَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهَا، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي عَمَلٍ لِيَأْخُذَ كَسْبَهُ فَيَسْتَعِينَ بِهِ فِي مُكَاتَبَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُؤَاجِرَ نَفَسَهُ، أَوْ أَمَرَ أَخَاهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ وَيَسْتَعِينَ بِأَجْرِهِ عَلَى أَدَاءِ الْكِتَابَةِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهَا، وَمَا اكْتَسَبَ الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي كِتَابَةِ الْأُمِّ وَقَائِمٌ مَقَامَهَا فَمَا اكْتَسَبَهُ يَكُونُ لَهُ وَمَا يَكْتَسِبُ أَخُوهُ حُسِبَ مِنْ التَّرِكَةِ، فَتُقْضَى مِنْهُ الْمُكَاتَبَةُ وَالْبَاقِي مِنْهُ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ فِي الْكِتَابَةِ قَامَ مَقَامَهَا، فَكَانَ حُكْمُهَا كَحُكْمِهِ وَكَسْبُ الْمُكَاتَبَةِ لَهَا، كَذَا كَسْبُ وَلَدِهَا.
وَأَمَّا الْوَلَدُ الْمُشْتَرَى فَلَمْ يَقُمْ مَقَامَهَا غَيْرَ أَنَّهُ كَسْبُهَا بِجَمِيعِ مَا اكْتَسَبَهُ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهَا مَاتَتْ عَنْ مَالٍ، وَلَوْ مَاتَتْ عَنْ مَالٍ تُؤَدَّى مِنْهُ كِتَابَتُهَا، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ بَيْنَهُمَا كَذَا هَذَا، وَقِيلَ: هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْوَلَدَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهَا وَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسْبَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَقَامَ مَقَامَ الْمُكَاتَبَةِ وَيَسْعَى عَلَى النُّجُومِ عِنْدَهُمَا، فَكَذَا إذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا الْفَاسِدَةُ وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَيْءٌ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا قَبْلَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ لَا تُوجِبُ زَوَالَ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ لِلْمَالِكِ عَنْهُ إلَى الْمُكَاتَبِ.
فَكَانَ الْحَالُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَدَاءِ، وَهُوَ الْعِتْقُ فَالْفَاسِدُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ، حَتَّى لَوْ أَدَّى يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْعَقْدِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ كَالصَّحِيحِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا.
وَنَفْسُ الْمُكَاتَبِ فِي قَبْضَتِهِ، إلَّا أَنَّ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ إذَا أَدَّى يَلْزَمُهُ قِيمَةُ نَفَسِهِ، وَفِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى؛ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ، وَالْقِيمَةُ هِيَ الْمِثْلُ؛ لِأَنَّهَا مِقْدَارُ مَالِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا الْمَصِيرُ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ تَحَرُّزًا عَنْ الْفَسَادِ لِجَهَالَةِ الْقِيمَةِ، فَإِذَا فَسَدَتْ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحَرُّزِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَا فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ لِلْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ بِغَيْرِ رِضَا الْعَبْدِ وَيَرُدَّهُ إلَى الرِّقِّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ فِي الصَّحِيحَةِ إلَّا بِرِضَا الْعَبْدِ، وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَفْسَخَ فِي الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ جَمِيعًا بِغَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَاسِدَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا، وَالصَّحِيحَةَ لَازِمَةٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إذَا أَدَّى فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ يُنْظَرُ إلَى الْمُسَمَّى وَإِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَدَاءُ فِي حَيَاةِ الْمَوْلَى أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْوَرَثَةِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ يَقَعُ مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَمَعْنَى الْيَمِينِ، فَإِذَا فَسَدَتْ بَطَلَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَبَقِيَ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَالْيَمِينُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْحَالِفِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ لَا تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَإِذَا بَقِيَ مِلْكُهُ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ، فَلَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا فَاسِدَةً فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَالْعِتْقُ فِيهَا يَثْبُتُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لَا مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْقِيمَةُ، وَلَوْ كَانَ الْعِتْقُ فِيهَا بِمَحْضِ الْيَمِينِ لَكَانَ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْيَمِينِ، وَكَذَا الْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَلَدَ الْمُنْفَصِلَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَمِينِ، فَثَبَتَ أَنَّ فَسَادَ الْكِتَابَةِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا، فَثَبَتَ الْعِتْقُ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَا يَزُولُ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، فَنَعَمْ لَكِنْ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَزُولُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَدَاءِ.
وَلَوْ كَاتَبَ أَمَتَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ أَدَّتْ عَتَقَتْ وَعَتَقَ وَلَدُهَا مَعَهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّحِيحِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ، وَالْأَوْلَادُ يَدْخُلُونَ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ كَذَا فِي الْفَاسِدَةِ، فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ وَلَدِهَا أَنْ يَسْعَى؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ، ثُمَّ الْأُمُّ لَا تُجْبَرُ عَلَى السِّعَايَةِ كَذَلِكَ الْوَلَدُ، لَكِنَّهُ إذَا سَعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّتْ الْمَالَ إلَى وَرَثَتِهِ تَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَعْتِقَ.
وَأَمَّا الْبَاطِلَةُ وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ فَلَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْبَاطِلَ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ كَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَّا إذَا نَصَّ عَلَى التَّعْلِيقِ، بِأَنْ قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَأَدَّى يَعْتِقُ لَكِنْ لَا بِالْمُكَاتَبَةِ، بَلْ بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ.